أخبار عاجلةالأدب و الأدباء

تنسم عبير أيام قديمة , لصلاح ياسين , قراءه للدكتور هاني السيسي

احجز مساحتك الاعلانية

قبل أن ندلف إلى صلب الرواية نقف هُنيهة عند الغلاف ، فقد استأثر اللون الأبيض بالمساحة الأعظم منه ، مما يومئ إلى صفاء تلك الأيام الخوالي التي يشير إليها العنوان ، وتأتي صورة الفتاة التي استحوذ اللون الأخضر ، وهي ترشف ربما شايًا من فنجان رفعته إلى فِيها ، تبدو جالسة يعلو ملامحها سكون واطمئنان وكأنها تشعر بحلاوة ما ترشفه وبدفء أحضان اللون الأبيض الذي يحتويها من كل جانب ، وفي خلفية صورة الفتاة تبدو ملامح بعض أشياء غير واضحة ، ربما أوحت بغبار الزمن وآثار السنين في غموض الذكريات وتماهي خيوطها مع الأيام الذاهبة .

ونأتي إلى العنوان الذي وشاه المجاز باستخدام العبير للذكريات التي تسكن حنايا الأيام وجنبات الزمن الماضي ولكنها برغم حاجز الزمن الهائل الذي لا يقدر عليه أحد لا تتأبى على الاستدعاء ولكنه استدعاء ذو شجون ، وإن كنا لا نرى تساوقا بين كلمتيّ عبير وقديمة في وصف الأيام لما قد يكون بينهما من تنافر على مستوى الإيحاء . يجب أن نضع في اعتبارنا كُتَّابًا كُنا أو نُقادًا عدة اعتبارات ونحن بصدد موضوع القصة بوجه عام .

* إن علاقة الكاتب ببطل روايته تسهم في ضعف تصويره الفني له .
* الأسلوب التقريري وأثره على تصوير الشخصيات.
* مشكلة العامية والفصحى .
* ظاهرة التناقض بين تفكير الأبطال وسلوكهم .
* الكاتب الذاتي وتأثره بظروفه الخاصة .
* ألوان الرواية : التحليلية ، التاريخية ، الفنية ، روايات التسلية .
* الأصوات السردية : الصوت الأول : يمثل شخصية الكاتب – يجب أن يختفي وجوده – . الصوت الثاني : يمثل شخصية الراوي وهو الذي ينوب عن الكاتب نيابة . الصوت الثالث : صوت البطل . هذه الأصوات نجد لدى كثير من الكُتّاب تداخلا واضحا بينها بدرجة مربكة ، خاصة وأن راوي الحدث قد يروي بضمير المتكلم ، وهذه الطريقة في السرد توجب الحذر الشديد ، لأن الراوي هنا دون أن يعِيَ الكاتب أحيانا ، يتداخل أو يتلبس بشخصية المؤلف من ناحية وشخصية البطل من ناحية أخرى، ومعنى هذا أن الشخصيات الثلاثة تتماهى مع بعضها.

***
يرتد بنا الكاتب منذ اللحظة الأولى في هذه الرواية إلى ماضي البطل أو مجموعة الأبطال الذين اختارهم الكاتب ليقيم بهم أحداث هذه الرواية . فهو ينقلنا نقلا عبر الزمان والمكان ، فالزمان لا شك أنه مختلف ِ، أما المكان فربما كان واحدًا لم يتغير إلا ما طرأ على الشخصيات من تطور في الثقافة والفكر والرؤية ، ومن ثم ، لبست الأماكن المختلفة أثوابا جديدة .
ربما كان هذا الارتداد إلى الماضي الذي استغرق معظم الرواية إلى ما قبل النهاية بقليل ، أو إلى النهاية ذاتها رفضا من الكاتب لواقعه على المستوى الشخصي والإنساني المتمثل في قهر الزمن ومحاولة الفرار من قبضته القاتلة حين يصل العمر بصاحبه إلى مراحله الأخيرة .

وعلى هذا ، فهناك صراع خفي بين الإنسان والزمن والذي نراه في الارتداد إلى الماضي والعودة إلى الحاضر ، وفي ثنايا هذه الحركة الحيوية يبقى الإنسان أبدا في جوف الزمن محكوما بأغلاله وقيوده .
الرواية بدأت في غرفة نوم صورها الكاتب وكأنها حلم ، بيد أن مفرداته صيغت من الواقع الماضي ( ص 1) . المرأة في هذا الفصل كأنها فتاة من فتيات الحكايات القديمة والخيال . بداية الرواية ونهايتها في الشقة / العيادة ذاتها مع اختلاف الزمن ، وتغيرات هائلة صبت الشخصيات في قوالب مختلفة .
إيقاع الأحداث على امتداد الرواية هادئ لا صخب فيه ولا انفعالات ، وربما كان هذا من سمات المجتمع المصري منذ عشرات السنين . الكاتب استخدم -كافتيريا الربيع- باعتبارها المكان الذي يجتمع فيه أبطال الرواية وينطلقون منه وإليه يعودون ؛ فالبطولة في هذه الرواية بطولة جماعية وقد استطاع الكاتب أن يخلق هذا التوازن الصعب بين الشخصيات المختلفة برغم تفاوت أدوارها في بعض الأحيان .
جمع الكاتب في شخصيات روايته أنماطا متنوعة من الناس في هذا المجتمع ، فنجد طبيب الأسنان ، الجرسون ، المدرس ، صاحب محلات ملابس ، صاحب مشتل زهور ، وكان حريصا على أن تضم تشكيلة شخصياته بعضا من الأجانب الذين عاشوا في مصر أو الذين هاجروا إليها لسبب أو لآخر .

بمهارة فائقة رصد الكاتب في هذه الرواية واقع المجتمع المصري بكل تفاصيله ودقائقه . لم يفلت من الراوي العليم في هذه الرواية شيء أو دقيقة من دقائق الحياة ، سواء ما يتعلق بالمكان أو الإنسان وكذلك فقد غلب على الرواية أسلوب السرد ، وجاء الحوار في ثنايا هذا الأسلوب ، وقد هيمن عليه الراوي ، كان ينطق الشخصيات بما يريده هو . بل أدار العلاقات بين هذه الشخصيات بصورة دقيقة تعطينا تصورا عن العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي كانت سائدة في المجتمع في ذلك الوقت . تعرضت الرواية من خلال شخصياتها لكثير من القيم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية والدينية التي كانت تحكم الناس في القاهرة على وجه الخصوص في ذلك التاريخ .

وظف الكاتب شخصيات تمثل نماذج وأنماطا من المسلمين والمسيحيين المصريين والأجانب ، وقدم صورة رائعة لروح التسامح التي كانت سائدة بينهم باعتبارهم جميعا طوائف متنوعة تشكل نسيج هذا المجتمع . مس الكاتب بعض المسائل السياسية مسًا خفيفا ولكنه مركّز ، فأشار إلى بعض ألوان الظلم التي نتجت عن سياسة التأميم ، وإلى فكرة الدكتاتورية التي كان عليها الحكم في ذلك الزمن ، يؤمن بها لكي يقيم الأمور في الدولة حسبما يهوى .

ظل الكاتب محافظا على امتلاكه لكل الخيوط الفنية للرواية والتي مكنته من المحافظة على تماسكها بشكل سلس دون معاناة ِ، وذلك منذ بدايتها وإلى نهايتها .

يتمتع الكاتب بحجم معلومات هائل أو ما يمكن أن نطلق عليه ( الثقافة العامة ) في ِألوان المعارف المختلفة ، في الطب والاجتماع والموسيقي والسياسة وعلم النفس وغيرها ، وجعل يسوق كل هذه المعلومات عبر أسلوبه السردي الطاغي .
من السلبيات .. التدخل المباشر في ثنايا السرد وفي المواقف المختلفة مما يحدث تداخلا بين الأصوات المختلفة في الرواية (ص 26، 41) وربما كان هذا التدخل مقتبسا يدل عليه استخدام الأقواس ( ص 104، 111) .
يتمتع الكاتب بقدرة هائلة على الوصف الدقيق والذي أدى إلى اعتماده على السرد اعتمادا أساسيا ( ص 190) … . هناك بعض المعلومات التي ساقها الكاتب والتي ربما جانبها الصواب ، وأرجو منه أن يراجعها ( ص 17، 28، 71، 147 و ص 188 )
صورة المرأة المنحرفة هي التي ربما كانت غالبة في فصول الرواية ، ولكنه ناقش وضع هذا النموذج بصورة مستنيرة ، يعالج فيها الأوضاع والموقف المختلفة للشخصيات النسائية على أساس العوامل الاجتماعية والإنسانية . ولذلك ساق الكاتب هذه الشخصيات إلى نهايات تنأى بهن عن طريق الانحراف وتضعهن على طريق الصلاح .. نعمات ، نعيمة ، ظهيرة المحضر ، نسمة ( ص 12 ) ، ويمثل موقف الكاتب من هذه النماذج النسائية تعاطفا واضحا معها ، بل ربما دعوة إلى النظر إلى المرأة المنحرفة بشكل مختلف يأخذ في الاعتبار إنسانيتها وظروفها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي أدت بها إلى هذا الطريق .

لجأ الكاتب إلى استخدام بعض ِأبيات الشعر في مواقف مختلفة ، وأرى أن هذا شكل من أشكال التدخل المباشر ، بدءا من الإهداء ، ( ص 34، 94 ) . التيمات الشعبية ، المثل ( ص 88 ، 93 ) ، الرؤيا (ص 171، 270 ) والتي وُظِفت في مواضعها من السياق . جمع الكاتب بين الفصحى والعامية ، أما أسلوبه في الفصحى فإنه أسلوب يمكن وصفه بأنه مغاير للمألوف ومتدفق ، ينهل من معين صافٍ يسير ، فهو كثيرا ما يقدم ويؤخر ويعمد إلى استخدام الكلمات الفصيحة القوية والتي ربما لا يعرفها الكثيرون وينأى عن استخدامها كثير من الكُتّاب مثل: بله ، ويستخدم الترادف وبعض أنواع البديع . عمد إلى استخدام كثير من الألفاظ الأجنبية المستخدمة في اللهجة المصرية ، وخصوصا في القرن الماضي ، وكذلك التعبيرات الشعبية .

يتناص أحيانا مع القرآن – ولات حين مندم – ( ص23) وأحيانا مع الشعر ( ص 60 ) . وحفلت الرواية بأخطاء كثيرة لغوية ونحوية وإملائية وأسلوبية ، وكان يجب مراجعتها لغويا .
النهاية ليست نهاية واحدة وإنما يمكن أن نعتبرها نهايات متعددة بتعدد الشخصيات ، وكلها مغلقة .. وكأنه كان حريصا على أن يجعل النهاية الأخيرة مُبَدِدَةٌ للحيرة ، وواضعة حدا للفصل الأول الذي ظل معلقا حتى نهايته ، وحتى نهاية الرواية .

إضاءات :
– لات حين مندم – لات هي المشبهة بـ ليس ، زيدت عليها تاء التأنيث للتوكيد ، وتغير بذلك حكمها حيث لم تدخل إلا على الأحيان، ولم يبرز إلا أحد مقتضياتها إما الاسم وإما الخبر ، وامتنع بروزها جميعا . وهذا مذهب الخليل وسيبويه. وعند الأخفش أنها لا النافية للجنس وزيدت عليها التاء وخُصت بنفي الأحيان .
– حين مناص – منصوب بها كأنك قلت : – ولا حين مناص لهم – . وعنه أن ما ينتصب بعده بفعل مضمر .. أي ولا أرى حين مناص ، وقد يكون النصب على – ولات حين مناص – أي وليس الحين حين مناص . قال أبو زيد الطائي : – طلبوا صلحنا ولات حين مناص – . أي وليس الحين حين مناص .
المناص : الفوت ، يقال – ناصه ، ينوصه – إذا فاته .
***
كلمة – بَــلْـهَ – إسم فعل بمعنى – دع – ويكون ما بعدها منصوبا ، أو مصدر ، ويكون ما بعده مجرورا ، أو بمعنى : كيف ويكون ما بعدها مرفوعا .

مقالات أخرى للكاتب

قراءة في فنجان قهوة أدونيس

الحب…. بعض من رؤى

عمر سليمان في معرض الميزان

احمد فتحي رزق

المشرف العام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى